سوريا المستقبل- تحديات التحول السياسي ومسؤولية المكونات الوطنية

المؤلف: د. أحمد العطاونة09.23.2025
سوريا المستقبل- تحديات التحول السياسي ومسؤولية المكونات الوطنية

تحتل سوريا مكانة مرموقة في قلوب وعقول جميع العرب، سواء كانوا ذوي ميول علمانية، قومية، إسلامية أو أي تصنيف آخر. يعود ذلك لارتباط كل فرد بتاريخ هذا البلد العريق؛ فالشام كانت مركز الدولة الأموية، أول إمبراطورية لهم، كما ساهمت بشكل بارز في تشكيل أفكارهم وحركاتهم القومية واليسارية الوطنية والإسلامية، بالإضافة إلى الشعر والفنون المتنوعة.

لقد كانت الثورة السورية الأخيرة بمثابة منارة أمل للكثيرين. لهذا السبب، وبعد زوال نظام الأسد اشتد الاهتمام بمستقبل سوريا، وتحديدًا شكل الحكم الذي سيتبناه.

اتفق الجميع على حق الشعب السوري في الحرية والعيش الكريم، معربين عن تطلعاتهم نحو بناء دولة تحترم الحقوق والحريات، وتصون سيادتها الوطنية، وتجسد الإرادة الشعبية الحقيقية.

إلا أن الخلافات حول المستقبل المحتمل لسوريا، والمخاوف المتعلقة بتوجهات الفصائل السياسية والاجتماعية المختلفة، سرعان ما ظهرت للعلن. انطلق نقاش محتدم حول مستقبل سوريا وهويتها، فسارع العلمانيون السوريون والعرب إلى المطالبة بدولة علمانية، بينما جادل الإسلاميون بأن هوية الثوار وأغلبية الشعب السوري جلية وواضحة، وأن إسلامية هوية الدولة أمر لا يمكن تجاهله.

هذا التباين يستلزم من جميع القوى السياسية، سواء كانت إسلامية أو علمانية، محافظة أو ليبرالية، أن تتحلى بأعلى درجات المسؤولية، وأن تعتبر من التجارب المماثلة التي شهدتها دول ومناطق أخرى.

في هذه اللحظة الفارقة، من الضروري إلقاء الضوء على بعض القضايا الجوهرية التي ستؤثر حتمًا على التحول السياسي في سوريا ومستقبلها، بعيدًا عن نظام الأسد. مع التشبث بالأمل في بناء الدولة التي يتوق إليها السوريون والعرب على حد سواء.

أولًا: لجم التطرف

يجب على العلمانيين والإسلاميين إدراك أن الحقيقة المطلقة ليست حكرًا على أحد، وأن ما يمتلكونه من تصورات ومناهج وأساليب في الحكم وإدارة شؤون الناس وتأسيس الدول، ما هي إلا تجارب بشرية تحتمل الصواب والخطأ. وفي الحالة السورية، تفتقر هذه التصورات إلى الخبرة العملية والتطبيق الفعلي، مما يستدعي التواضع في عرض الأفكار والمقاربات المختلفة.

في ظل محدودية المعرفة والتجربة والخبرة لدى الجميع، يصبح التسامح مع آراء الآخرين ومنحهم الفرصة الكافية لإثبات صحة ادعاءاتهم أمرًا بالغ الأهمية، بل لا مناص منه. ليتم التأثير المتبادل على المناهج والأفكار والأداء بالوسائل الحضارية والقانونية المشروعة، ولنعمل سويًا على تطوير تجربتنا الخاصة من خلال الحوار البناء والتنافس الشريف والنقد الإيجابي الهادف. لا يحق للعلمانيين اليوم أن يطالبوا إسلاميًا وصل إلى السلطة عن طريق الثورة بتطبيق أفكارهم وإقصاء ذاته وفكره.

كما يجب على الإسلامي، وهو في موقع الحكم، أن يمنح الآخرين المساحة والفرصة الكافية لعرض أفكارهم وقيمهم على الناس، وليكن الشعب هو الحكم الفيصل على الأداء.

لقد اندلعت الثورة في الأساس لمنح الناس حريتهم كاملة غير منقوصة، فالحرية هي القيمة العليا التي دفعتهم للتحرك والتضحية، وهي المبرر الذي منح الثورة شرعيتها. وعليه، فإن منح الجماهير حرية الاختيار بين البرامج والأحزاب والجماعات المختلفة هو حق مقدس وواجب تجاه الوطن.

لا يجوز لأي طرف أن يدعي الوصاية على الشعب بحجة امتلاكه للحقيقة المطلقة، أو لأنه يعتقد أنه الأجدر والأصلح للشعب ومستقبله. إن احترام وقبول الآخر كما هو شرط أساسي للتعددية السياسية والعمل المشترك، وأي محاولة لإقصاء الآخر تعني ببساطة إعادة إنتاج نظام الاستبداد ولكن بحلة جديدة.

ثانيًا: تفادي الوقوع في فخّ ادّعاء التفرد والاستثنائية

يجب التعلم من دروس الربيع العربي، ومحاولات التغيير التي شهدها العقد الماضي، وإظهار الإخلاص في العمل مع الجميع، والاستفادة من جميع الطاقات والكفاءات الوطنية، وتجنب الإقصاء والتهميش. كما يجب تحصين الجبهة الداخلية بمختلف مكوناتها من التدخلات الخارجية والاصطفافات الإقليمية الضيقة.

فقد كان التفرد والانقسام والانتهازية، والأحكام المسبقة، والتجاوزات في الخصومة السياسية، والتسرع في جني الثمار المتوقعة، كل ذلك بالتوازي مع قلة الخبرة والتجربة السياسية التي عانى منها الجميع، كنتيجة منطقية للعيش في ظل الدولة الشمولية لعقود طويلة، أسبابًا رئيسية أضاعت الكثير من الفرص السانحة أمام شعوب المنطقة للانتقال إلى حقبة تاريخية جديدة، والتحرر من الاستبداد والفساد والجهل.

ثالثًا: التسرّع والاستعجال في قطف الثمار

"الكعكة السورية" لم تنضج بعد، وما زالت محفوفة بالمخاطر الهائلة، داخلية وخارجية. هذه المخاطر تستدعي الحرص الشديد على إنجاح التجربة واستقرار البلاد وإعادة بنائها، وبعد ذلك فليخض الجميع غمار المنافسة المشروعة على الحكم والنفوذ والمكانة، التي لا ينبغي أن يكون لأحد القدرة على منحها سوى الشعب السوري وحده، صاحب الحق الحصري في منح الشرعية ونزعها.

هذه القضية تهم الجميع، لكن الفصيل الحاكم اليوم "جبهة تحرير الشام" أو الإسلاميون هم المعني الأول بها. فالوقوع في فخ الرغبة في الاستئثار والهيمنة وتهميش الآخرين سيكون مدخلًا لتقويض التجربة، وفتح الباب لكل المتربصين والخائفين للتدخل السلبي في شؤون البلاد.

رابعًا: الغرب المنافق

بالاستناد إلى تاريخ الدول الغربية الطويل في التعامل مع قضايا العالم الثالث، وبالنظر إلى مواقفها المخزية تجاه دول الربيع العربي، يتضح أن الغرب برمته، في غالبيته العظمى، منافق ومعادٍ للتغيير الحقيقي في منطقتنا، ولا يدعم حرية الشعوب وتقرير مصيرها، بل هو داعم قوي للاستبداد والأنظمة الشمولية القمعية.

وكل ما يردده من شعارات زائفة حول الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، ليست سوى سلسلة لا تنتهي من الأكاذيب. فهو لا ينظر إلى منطقتنا ودولها إلا من منظور المصالح والأهداف والمشاريع الإمبريالية الاستعمارية. وعليه، فلا ينبغي انتظار أي دعم من أي من الدول الغربية، بل يجب الوعي التام بأهدافها وسياساتها الخبيثة، ووضع الخطط والاستعداد لمواجهة أدوارها التخريبية في المنطقة، وملفات تدخلها السافر حاضرة دومًا: المرأة، والأقليات، وحرية التعبير… إلخ، وهي قضايا في غاية الأهمية والحساسية، وعلينا في العالم العربي والإسلامي أن ننتج فلسفتنا ومفاهيمنا وقيمنا وآلياتنا الخاصة في التعامل معها، والتي تعبر عن قيمنا ومفاهيمنا القادرة على إنتاج مقاربات حضارية ومنصفة وعادلة للتعامل مع هذه القضايا وغيرها.

خامسًا: الاستقواء بالغرب

هذا السلوك هو وصفة قاتلة للتغيير المنشود، ولمن يسلك هذا الطريق أيضًا؛ إذ غالبًا ما تستقوي بعض الجهات المحلية من مؤسسات وأقليات بالدول الغربية، تحت ستار الدفاع عن الحقوق الأساسية، كحقوق المرأة والأقليات، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه للتدخل الخارجي السلبي في الغالب، ويعقد المشهد الداخلي، ويزيد من حالة العداء والاستقطاب الحاد.

الأطراف المرشحة لذلك في الحالة السورية هي بالأساس القوى العلمانية وقوى المجتمع المدني والأقليات، وبعضها بالفعل يتحرك الآن تحت الحماية الخارجية، والبعض الآخر يحاول استجلابها بكل ما أوتي من قوة.

ولعل المثال الأهم الذي ينبغي أن يشكل عبرة لكل المستقوين بالخارج هو نظام الأسد ذاته، الذي لم يستند يومًا في شرعيته إلى شعبه، واعتمد – وبالذات خلال سنوات الثورة – على الدعم الأجنبي السخي، ولعل نهايته الدراماتيكية تشكل درسًا بليغًا لكل من يبحث عن شرعية حكم أو مشاركة بعيدًا عن الإرادة الوطنية الشعبية.

سادسًا: إسرائيل

هذه الدولة بوصفها أداة إمبريالية وكيانًا استعماريًا استيطانيًا غريبًا عن المنطقة وتاريخها وهويتها الثقافية والسياسية، هي العدو اللدود للجميع في سوريا وعموم المنطقة، حتى وإن طبّع معها من طبّع، وصادقها من صادق، فالشعوب تدرك جيدًا أنه لا يوجد عدو مشترك لها في المنطقة سوى إسرائيل، وعليه فالبحث عن حماية أو تعزيز نفوذ بالتعاون معها، أو الاعتماد عليها بأي شكل من الأشكال، هو جريمة نكراء لا ينبغي لأحد أن يقترفها أبدًا.

وبالذات عندما ندرك أن التصور الإسرائيلي المعلن لسوريا الجديدة هو التقسيم، ودعم إنشاء كيانات متعددة في البلاد، مدعومة من الولايات المتحدة الأميركية ودول أخرى، وهو تصور ينسجم مع رؤية قائمة على إعادة تفتيت المنطقة، وبناء كيانات وأنظمة الأقليات، كي تنفي إسرائيل عن نفسها صفة الشذوذ بوصفها جزءًا من منطقة قائمة على فكرة كيانات ودول الأقليات.

سابعًا: هوية الدولة

المشترك الذي ينبغي العمل وفقه والإصرار على تحقيقه هو بناء دولة مدنية تعددية راسخة تضمن الحريات للجميع دون استثناء، وترعى حقوق جميع المواطنين على قدم المساواة، بوصفها دولة مواطنة حقيقية، توفر لكل أبنائها الأمن والرعاية والفرص المتكافئة والعادلة.

إن مدنية الدولة، التي تشكل النقيض المطلق للاستبداد والحكم العسكري الشمولي، هي قضية مشتركة في الفكر الإسلامي والوطني والعلماني. ولا ينبغي أن تتحول هوية الدولة إلى أزمة داخلية مستعصية، كما أن أي محاولة لبناء نظام سياسي مغاير لما ذكر، ستشكل مدخلًا للكثير من القوى الداخلية والخارجية لتعطيل التجربة برمتها، وقد تقود إلى تمزيق سوريا وتقويض فرص تعافيها وانتقالها لمرحلة جديدة ومزدهرة.

ولا شك أن العبء الأكبر في هذه القضية الحساسة يقع على عاتق من يتولون زمام الأمور اليوم، ومن يمتلكون النصيب الأكبر من القوة، ويسيطرون على مقاليد السياسة والجغرافيا، فنجاح السيد أحمد الشرع وفريقه الموقر في التعامل مع هذه القضية بحكمة وروية أمر حاسم في عبور سوريا الآمن نحو المستقبل المنشود.

إن الانزلاق إلى حالة من الاشتباك أو التصادم السياسي أو العسكري يعني الفشل الحتمي والذريع، وإن الاغترار بالقوة والإمكانات المحلية يشكل خطرًا جسيمًا لا يقل بأي حال من الأحوال عن الاستقواء بالخارج لجلب الدعم المشبوه.

لا شك أن جميع المكونات السياسية والاجتماعية السورية تقف اليوم أمام اختبار تاريخي مصيري، فإما أن تنجح في تقديم مصلحة بلدها وشعبها ومستقبلها الزاهر، وتدفع بكل قوة باتجاه إنجاح هذه المحطة التاريخية الفاصلة، أو أن تغلب مصالحها الضيقة الآنية، فتقضي بذلك على التجربة وتفوت اللحظة التاريخية الحاسمة، كما حدث للأسف في أكثر من دولة عربية.

ولا بد أن مختلف الأطراف في سوريا يدركون تمام الإدراك أن شعوب المنطقة ومكوناتها السياسية المختلفة تنظر إلى سوريا بعين الأمل، وتنتظر منها بفارغ الصبر أن تقدم لهم تجربة ناجحة وملهمة تفتح لهم باب الأمل من جديد، وهو ما يضاعف بشكل كبير من المسؤولية الملقاة على عاتقهم جميعًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة